استقبلنى عام 2019 رئيس جمهورية اليونان السابق السيد بروكوبيس بافلوبولوس فى مقره برئاسة الجمهورية فى أثينا، وتحدث معى والوفد المرافق لى من مكتبة الإسكندرية حول شواغل وهموم الثقافة المعاصرة، ولأنه أكاديمى وقانونى فقد كان معنيًا إلى حد كبير بالقضايا الجادة والمتعلقة بالعلاقات الدولية المعاصرة ومستقبلها فى سنواتها القادمة، وهو الذى قال فى إحدى خطبه أمامنا إن الإسكندرية هى أهم مدينة أفرزتها الحضارة الهيلينية فى مرحلة مبكرة من تاريخ البشرية، وقد عبر الرئيس اليونانى – شأن معظم اليونانيين – عن حبه لتلك المدينة البحر متوسطية الساحرة التى تعد بحق أم المدائن على شاطئ بحيرة الحضارات، الذى يتوسط العالم وتنبعث منه رائحة التاريخ وتتلألأ معه أضواء فنار الإسكندرية، ثم بدأ يحكى لنا عن اتصال أجراه معه رئيس دولة الصين، وتطرق الحديث بينهما إلى حوار الحضارات والتواصل المشترك بينها، وقد اقترح الرئيس الصينى أن تتم مفاتحة الدولة المصرية كشريك ثالث فى هذا الحوار لأنهم لا يرون أحق منها بتبنى تلك المبادرة بحيث تقف الحضارة الفرعونية فى أول الصف تتلوها حضارة اليونان وحضارة الصين، وقد أعجبتنى شخصيًا تلك الرؤية خصوصًا أننا نرى أن الثقافة هى القائد الحقيقى لقاطرة التطور الإنسانى عبر كل مراحل التاريخ، لأن الثقافة هى محصلة الحالة التى يمر بها المجتمع الإنسانى فى وقت معين وهى تعكس همومه وشواغله وأحلامه بل وأوهامه أيضًا، لذلك وقع حديث الرئيس اليونانى منى موقعًا أثيرًا وصادف هوًى فى نفسى لأننى كنت ولا أزال وسوف أظل متحمسًا لهذا النمط من التفكير القائم على أهمية البناء الحضارى والنسق الثقافى والذى يعطى منطقة البحر المتوسط شخصية متميزة بين أقاليم العالم المختلفة، إنه إقليم شجرة الزيتون والامتزاج الواضح بين فلسفة الشرق وروح الغرب، وقد أيدت الرئيس اليونانى فيما قال وعندما طلب منى أن أحدد ما تستطيع أن تقوم به مكتبة الإسكندرية التى كنت مديرها حينذاك، أجبته أن وجودى مع الوفد المرافق فى ذلك الوقت هو خير دليل على إيماننا المطلق بالتزاوج الحضارى بين الأمتين المصرية واليونانية، وقلت له إن المكتبة فى حد ذاتها بشخصيتها الدولية على أرض مصر هى تجسيد واضح لذلك التواصل القوى بين الحضارة الفرعونية والحضارة الإغريقية فى ثوبهما الحديث بعد عشرات القرون من إنشاء المكتبة ثم إعادة إحيائها حرصًا من مصر على ذلك التواصل الحضارى الذى تحدث عنه الرئيس اليونانى، وأظن أن المكتبة ماضية على هذا الطريق باهتمام وشغف شديدين لكل ما يتصل بعلوم البحر المتوسط وآدابه وفلسفاته التى يتطلع إليها العالم باعتبارها بؤرة الإمبراطوريات العظمى الفرعونية والهيلينية والرومانية، ونحن حين نتحدث عن التواصل الحضارى والحوار بين الثقافات، فإننا ندرك أن أممًا مثل مصر واليونان والعراق والصين هى أمم صنعت الحضارات منذ فجر التاريخ واقتنصت منها أحداثًا سوف تظل دائمًا مصدر إلهام للإنسان فى كل زمان ومكان، والذين يعرفون الشعب اليونانى جيدًا يدركون حبه لمصر، واستيطان بعضهم لأرضها عبر العقود وامتزاجهم بسكانها فى يسر وسهولة ورغبتهم الجامحة فى أن تكون لهم مكانة دائمة على كل اتجاه فى البلدين المتجاورين ولا تفصل بينهما إلا مياه البحر الذى يتوسط الحضارات ويطل على شواطئ الثقافات، إننى من دعاة الاهتمام بالعلاقات البحر متوسطية، ومن حسن الحظ أن نظام الحكم القائم فى مصر يتحمس لهذا الأمر ويسعى فيه، لأنه يرى الخير لكل الأطراف من المضى على طريقه، ويتذكر المصريون باعتزاز الموقف الداعم لمصر عندما أمم عبدالناصر قناة السويس وانسحب المرشدون من رعايا الدول الغربية باستثناء المرشدين اليونانيين الذين أصروا على البقاء وقدموا كل دعم للدولة المصرية، وباركوا التأميم باعتباره استردادًا لحق كاد يضيع.
إننى أتمنى مزيدًا من الترابط العصرى بين القاهرة وأثينا خصوصًا أن الأرضية السياسية تبدو متوافقة إلى حد كبير، فلقد عاش اليونانيون فى قلب مصر وتغلغل المصريون فى قلب أبناء الأمة الإغريقية، ولقد زارت مصر منذ أيام قليلة ملكة إسبانيا السابقة صوفيا قرينة الملك السابق خوان كارلوس وهى يونانية وشقيقة لآخر ملك لليونان وأعنى به الملك قسطنطين الذى ترك السلطة فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، وقد تربت فى الإسكندرية عندما كان والدها لاجئًا فى عروس البحر المتوسط، التى احتضنت رموزًا كثيرة من قادة العالم وحكامه سواء أكانوا فى السلطة أو خارجها، وذلك خيط رفيع للعلاقات القوية التى تربط الأمتين اليونانية والمصرية على ضفتى البحر المتوسط، ولعلنا نتذكر أن الدولة الوحيدة التى زارها الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر فى غرب أوروبا تعتبر هى اليونان وقد استقبله هو والسيدة قرينته يومها الملك بول والملكة فريدريكا، ولم يتحمس عبدالناصر الصعيدى العربى للبروتوكول اليونانى الذى كان يجعل الملكة اليونانية تتأبط ذراع الرئيس المصرى، والسيدة الفاضلة قرينته تحية تتأبط ذراع الملك اليونانى، يومها اعتذر عبدالناصر بلطف ومضى وفقَا لتقاليد بلاده العربية الإسلامية مع التسليم بالعلاقة الوثيقة بين الحضارتين الإغريقية والمصرية والطريق الطويل الذى سلكته تلك العلاقة حتى أصبحت مستقرة وقوية وعصية على التغيير!