على الرغم من وجود فاصل زمني مدته ثلاث سنوات بين (حادثة تحويل القبلة ورحلة الإسراء والمعراج) ، وعلى الرغم من البُعد المكاني بينهما، فإن الحدث الأول كان مكيًا ومحله السماء، والثاني كان مدنيًا ومحله الأرض.. إلا أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الحدثين؛ فيا تُرَى ما هي العلاقة التي تجمع بينهما؟.
إنَّ الناظر في آراء العلماء سيرى أنَّ هناك أقوالًا كثيرة تفيد وقوع كلا الحدثين في شهر رجب، واستنادًا إلى هذه الأقول فإن الحدثين قد وقعا في شهر واحد..
والمتأمل في الصلاة التي هي موضوع تحويل القبلة سيجد أنها حجر الزاوية في رحلة الإسراء..
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) قد صلى في كل موضع وطئته قدمه الشريفة في تلك الرحلة، ففي الحديث: (أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَرَكِبْتُ وَمَعِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَسِرْتُ فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ. فَفَعَلْتُ فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ، وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ، ثُمَّ قَالَ انْزِلْ فَصَلِّ. فَصَلَّيْتُ. فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ، حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَم-ُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ. فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ. فَقَال:َ أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-. ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَجُمِعَ لِيَ الأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ) "رواه النسائي"..
ولما مر النبي (صلى الله عليه وسلم) بموسى (عليه السلام) وجده يصلي في قبره، ففي الحديث: (مررت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) "رواه مسلم"..
هذا ولم تكن الرحلة السماوية منبتة الصلة عن الرحلة الأرضية، ففي المعراج رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) إبراهيم (عليه السلام) في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى "كعبة السماء" البيت المعمور الذي هو قبلة الصلاة لأهل السماء، ومن المعلوم أنَّ إبراهيم (عليه السلام) هو من بَنى "كعبة الأرض" التي ستحول إليها القبلة لتكون وجهة المسلمين في الصلاة إلى يوم القيامة..
ثم صعد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى سدرة المنتهى وفيها رأى الجنة وعُرضت له النار، فكان من بين ما رأى فيها عقوبة تاركي الصلاة، ففي الحديث: (ثم أتى على قومٍ تُرضَخ رؤوسُهم بالصخرة، كلما رُضِخت عادت كما كانت، ولا يُفتَّر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة) "راوه البيهقي"..
ثم دخل النبي (صلى الله عليه وسلم) الحضرة الإلهية فرأى أنوار ربه، وأُعطِي هدية الصلاة، وفي طريق عودته التقى موسى (عليه السلام) ، فطَلب منه أن يَرجع إلى ربه؛ ليسأله التخفيف (فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله -عز وجل- حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وَأُسَلِّم، فلما بَـعــُدَ، نادَى مُنادٍ: قد أمضيتُ فريضتي وخففتُ عن عبادي) "زاد المعاد لابن القيم".
مما سبق نفهم أنَّ تحويل القبلة كان امتدادًا وتتمةً لرحلة الإسراء والمعراج؛ لذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يُقلِّب وجهه في السماء؛ أملًا في تحويل القبلة وانتظارًا لقدوم الوحي بذلك؛ لأنه كان يعلم أنَّ الصلاة التي فرضت في السماء ليلة المعراج لنْ تحُوَّل قبلتها إلا بوحي من السماء..
ثم إنَّ رحلة الإسراء كانت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أما تحويل القبلة فكان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فالمكان الذي انتهى عنده الإسراء كان منه تحويل القبلة..
يضاف إلى هذا أنَّ أول مسجد بُنِيَّ لأجل الصلاة والعبادة هو المسجد الحرام، يليه المسجد الأقصى بأربعين سنة..
ومن المشتركات بين المسجدين أنَّ كلاهما بُنِي بواسطة نَبي، فقد قيل: إنَّ قواعدهما وضِعَت على يد آدم (عليه السلام) ، ورُفِعَت بواسطة إبراهيم (عليه السلام)، وقيل بأنَّ: بناء الكعبة كان بواسطة إبراهيم (عليه السلام) وبناء الأقصى كان على يد إسحاق (عليه السلام). ومن المشتركات –أيضًا- أنَّ كلا المسجدين قد حرره الصحابة فتحًا دون قتال.
فالمتأملُ في الحدثين الجليلين سيدرك أنَّ مكة المكرمة كانت في القلب منهما، حيث ابتدأت منها وانتهت عندها رحلة الإسراء والمعراج، وإليها كان أمر القبلة بعد تحويلها..
أمَّا المدينة المنورة فكانت حاضرةً في المشهدين؛ فهي أول محطة نزلها النبي (صلى الله عليه وسلم) وصلى فيها في رحلة الإسراء، كما أنَّ تحويل القبلة من الأقصى إلى الكعبة حدث والمسلمون في المدينة. وأمَّا القدس فقد كان حضورها جليًا، فإليها انتهى الإسراء، ومنها ابتدأ المعراج، وإليها كانت القبلة أول مرة، ومنها تحولت إلى مكة..
وتلك هي البقاع الشريفة التي تضم المساجد الثلاثة -الحرام والنبوي والأقصى- التي تُضَاعَف الحسنات فيها ولا تشد الرِّحال إلا إليها.
لقد كان الابتلاء قانونًا للحدثين، قال تعالى في شأن الإسراء والمعراج: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) "الإسراء: 60"، وفي شأن تحويل القبلة قال سبحانه: (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) "البقرة: 143" ؛ فالأداء القرآني واحد بشأن الحدثين، والتماثل اللفظي واضحٌ في عدد من كلمات الآيتين: (وَمَا - جَعَلْنَا - الَّتِي- إِلا)، والتعريف بــ"الْ" العهدية في كل من (الرُّؤْيَا – الْقِبْلَةَ) وخطاب النبي بمقام الحضور للتعظيم في الموضعين (أَرَيْنَاكَ - كُنْتَ) وخطاب غيره بمقام الغيبة في الآيتين (فِتْنَةً لِلنَّاسِ – لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ)؛ لأن مصدر الأمرين واحد وكلاهما خرج من مشكاة واحدة، (كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) "آل عمران: 7".
ولأن الابتلاء من القواسم المشتركة بين الحدثين، فقد رسب فيه قوم ونجح آخرون! ففي أعقاب معجزة الإسراء والمعراج اشتد نكير الوثنية في مكة، وقالوا للنبي (صلى الله عليه وسلم): (نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعداً شهراً ومنحدراً شهراً، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة؟! واللات والعزى لا نصدقك) "السيرة الحلبية"، وقالوا –أيضًا- ردًا على تحويل القبلة: (رجَع محمدٌ إلى قبلتنا، وسيرجعُ إلى ديننا) "تفسير الطبري"..
أما اليهود فعلى الرغم من صلاة المسلمين إلى قبلتهم -بيت المقدس- وما كان في هذا من تأليف لقلوبهم، فإن ذلك لم يخفف من حدة عدائهم، ولم يمنع من تآمرهم على الإسلام ونبيه، فلما تحولت القبلة إلى الكعبة ادعوَّا أنَّ النبي: (قد التبسَ عليه أمره وتحيَّر) "تفسير القرطبي"..
وأما أصحاب النفوس المريضة في مكة -ممن أسلموا بلسانهم دون أن تؤمن قلوبهم- فقد ارتدوا وعادوا إلى سيرتهم الأولى في أعقاب الإسراء والمعراج، ووقف إخوانهم في المدينة مع اليهود والمشركين إثر تحويل القبلة وصاروا يقولون: (ما بال محمد يحولنا مرة إلى ها هنا، ومرة إلى ها هنا) "تفسير الطبري".
فكشف كل من الحدثين النقاب عن السفهاء ورسبوا جميعًا في الابتلاء (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) "البقرة: 142". أما الصحابة –أهل النجاح في الابتلاء- فآمنوا بالحدثين -الإسراء والمعراج، وتحويل القبلة- وامتثلوا للأمرين –أمر الصلاة في رحلة المعراج، وأمر تحويل القبلة- فهذا أبو بكر لما قال له المشركون: (صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق) "مستدرك الحاكم"، وشرع الصحابة في أداء ركن الصلاة منذ فرضت في المعراج فلم يتخلف منهم أحد، وهذا صحابي آخر لما حولت القبلة أدى الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم خرج (فَمَرَّ علَى أهْلِ مَسْجِدٍ وهُمْ رَاكِعُونَ، فَقالَ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَدْ صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ البَيْتِ) "رواه البخاري".
لقد كان (الإسراء والمعراج، وتحويل القبلة) آيتين من آيات الله الكبرى ونعمتين من نعمه العظمى، تتجدد ذكراهما العطرة في كل عام؛ فنتذاكر فيهما شئون وهموم الأقصى الشريف -مسرى الرسول وأولى القبلتين-. ونتعرف على فضائل المسجد الحرام فتهفوا نفوسنا إلى زيارة الكعبة التي نستتقبلها صباح مساء. وتتعلق أرواحنا بالمدينة المنورة –أول محطات رحلة الإسراء، وأول مكان شهد استقبال المسلمين للكعبة بعد تحويل القبلة-..
ونفرح بتكريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) في السماء وإمامته لجموع الأنبياء (عليهم السلام) ، كما نفرح بجبر الله خاطره في تحويل القبلة. ونجدد العهد مع الله بشأن هدية المعراج "الصلاة"، كما نجدد له البيعة على تعظيم الكعبة الشريفة والقبلة المنيفة التي تمثل أهم رمز للمسلين في الأرض.
حفظ الله الحرمين الشريفين، وحرر مسرى الرسول وأولى القبلتين، وجعلنا ممن أدى الصلاة على الوجه الذي يرضيه، وكل عام وأمة الإسلام والعرب بخير.
|