حين يرى الإنسان - المتألق نجاحاً - فى أى موقع من مواقع الحياة - وبخاصة النجوم والبارزين - أنه قد بلغ القمة فى أمر ما ولم يعد فى وسعه التقدم، بل بدأت تلوح فى الأفق القريب بوادر النقص والهبوط.. يقع النجم اللامع فى حيرة بين لذة القمة وذيوع الشهرة وما يتعلق بها من نرجسية وظهور متعالى للأنا وبين صوت العقل الذى يناديه بالتوقف ليعيد ترتيب أوراقه.. وليبدأ مرحلة جديدة حتى يحافظ على المستوى الرائع والإنجاز العظيم الذى حققه، وليكون هذا الانجاز الرائع دافعًا لإنجاز جديد.. إنه فى حاجة لأن يبدأ جولة جديدة تناسب وتتناغم مع كل الظروف والسياقات التى تحيط به.. إننا لن نظل أطفالاً طول العمر ولن نظل شبابًا طول الحياة.. وإنها سنة الحياة أن نمر بكل هذه المراحل والعاقل الذكى الذى يتناغم مع كل مرحلة من عمره بما يلائمها ويتناسب معها..
من الناس من يتفهَّم ضرورة الزمان ويدرك طبيعته المتغيَّرة، وأن الحياة لا تتوقف عند مرحلة بعينها ولا عند إنسان بعينه! فالتحوُّل والتغير سمة حياتية وسنة لا تتبدَّل.. التغير هو الشئ الوحيد الثابت فى الحياة..
ومن هنا يدرك العقلاء هذه اللحظات الفارقة فى حياتهم ليحافظوا على ما أنجزوا وأبدعوا ويصونوه من شوائب النقص أو الاضطراب ويتحولوا بهدوء وحكمة إلى مرحلة جديدة فى حياتهم ، فإن كان لاعب كرة مثلاً وحانت لحظة اعتزاله الملاعب، تحوَّل إلى التدريب، أو التعليق، أو الإدارة... إلى غير ذلك من الأدوار والأعمال والإنجازات، غير متشبث بالبقاء الأبدىِّ فى مرحلة بعينها وقد تجاوزها بفعل عوامل الزمن، فيمضى إلى المرحلة الجديدة، مستمتعًا بما حققه من نجاح سابق، وعازماً على تحقيق نجاحات أخرى وإنجازات أخرى تناسب عمره وظروفه الجديدة.
ولكن بعض الناس يُصِرُّ بعناد على أن يستمر، رغم عوامل الزمن، ضاربًا عرض الحائط بقوانين الحياة ودوراتها وتقلبات الدهر وأطواره، فتجده قد أصبح صورة باهتة ممسوخة، كيانًا ترهلت قدراته وضعُف أدؤه بشكل يثير الشفقة والرثاء.. إن الاستمرار هنا إساءة للإنسان وتاريخه، وتشويه لسجل إنجازه .. وكلّنا نتذكر الملاكم العالمى الشهير "محمد على كلاى"، الذى كان يُلَقَّب بالفراشة الراقصة.. إنه صاحب إنجاز غير مسبوق في مجاله.. لكنه أبى أن يذعن لسنن الحياة وقوانينها الحاكمة فأنهى تاريخه بهزيمة قاسية لم يعد أمامه وقت كافٍ للردّ عليها.. لقد حكم على نفسة بالهزيمة حين عجز عن التوقف فى اللحظة المناسبة.
في كل مجالات الحياة تجد هذا النموذج الذي يجسِّد معانى العناد الغبىّ، والأنانية، والنرجسية الصارخة، والعجز البليد.
إنه عناد غبىٌّ، لأنك تعاند سنن الطبيعة التى لا تستثنى أحدًا.. وأنانية لأنك شحيح ، لم تسلم الراية لغيرك مفسحًا المجال للأجيال الصاعدة ونرجسية صارخة لأنك جعلت من ذاتك محورًا للوجود، وعجز بليد لأنك لا تملك القدرة على التوقف فى اللحظة المناسبة.
تجد هذا النموذج أيضًا فى عالم السياسة، فترى القائد السياسى وكأنه قد ربط إلى كرسيه بأغلال من حديد، لا يتزحزح عنه، ولا يريد أن تفلت السلطات من يده، وهو على يقين تام أن سلطان الزمن أقوى من سلطانه، وأنه مهما أوتى من قوة وحنكة لن يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولن يوقف دورات الزمان وتعاقب الأجيال، فيظلُّ متشبثًا بالسلطة حتى النفس الأخير.
تتغيرَّ الدنيا، وتتحوَّل النُّظُم والسياسات والأفكار، ولكن الوجوه ثابتة لا تتغير، كرجال الاتحاد الاشتراكى الذين سيطروا على الحياة السياسية فى مصر نصف قرن من الزمان، وعلى الرغم من تحوُّل النظام السياسى المصرى من الأشتركية إلى الديمقراطية، ومن الشمولية إلى التعددية، فقد ظلت الوجوه ثابتة – فى الأعم الأغلب - لا تتغير ولا تتبدَّل حتى بعد ما أصاب النظم الأشتراكية من انهيار في مهدها، بقى رجال الاتحاد الاشتراكى فى السلطة، وإن تغيرت الكلمات والأشكال ، وكأنهم رجال لكل العصور!
إن حب البقاء الأبدى فى السلطة لم يعد له وجود فى عالم اليوم، إلَّا فى بلادنا!!
فيا أيها الأبدى: لماذا تحكم على نفسك بهذا المصير التعس؟!
لقد أدَّيتَ رسالتك، وآن لك أن تسلم الراية لغيرك.. لماذا العناد والإصرار على الاستمرار وقد أصبح الاستمرار ضعفًا وعجزًا وتشويهًا لما قدَّمت من إنجازات؟!
إن الحكومات التى أدركت سنن التغير والتحوُّل، وقامت بدورها فى تداول السلطة وانتقالها – لم يكن في ذلك نقصٌ من قدرهم، بل على العكس كان ذلك رفعًا لأقدارهم وتتويجًا لتاريخهم، وعملاً ستذكره لهم شعوبهم ويبقون معه نجومًا مضيئة فى سماء بلادهم
ومن النماذج المشرفة فى عالم السياسة:
أعلن محمد ولدفان الذى قاد (موريتانيا) لمشروع ديمقراطى فى برنامج زمنى محدد لم يتجاوز العام ونصف العام ، ثم أنجز انتخابات محلية حقيقية ، وأنجز انتخابات برلمانية ناجحة وصادقة ليس فيها 99.99% نسبة التسعات الثلاث المشهورة فى بلادنا.
وهذه الانتخابات راقبتها منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوربى ومنظمات حقوق الإنسان الدولية...
وسلم أعلن محمد ولد فان الراية لغيره عن حب وكانت له القدرة على التوقف فى اللحظة المناسبة فصار رمزًا وطنيًا للإخلاص وحب الوطن.
لكن الغالب علينا – فى كل مجال وليس فى مجال السياسة فقط.
أنَّنا مكبَّلون بثقافة العجز عن التوقف!
إنَّ القدرة على التوقف فى اللحظة المناسبة ليست عجزًا، بل هى قوة وشجاعة، وامتثال صادق لسنن الطبيعة وتحولات الزمان، وتعاقب دورات الحياة وما يعقلها إلى العالمون ، وما يتذكر إلا أولوا الألباب .
dr.mohameddawood@yahoo.com
|